كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} أي: ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبزَ بها الملقب فقد روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد، وأبو داود. وفسره بعض السلف بقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق! وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق بعد التوبة. والآية- كما قال ابن جرير: تشمل ذلك كله قال: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.
{بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} قال الزمخشري: {الاسم} هاهنا يعني الذكر. من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته. وحقيقته ما سماه ذكره، وارتفع بين الناس. ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر، أن يذكروا بالفسق. وفي قوله: {بَعْدَ الْإِيمَانِ} ثلاثة أوجه:
أحدهما- استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة، الصبوة.
والثاني- أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودي! يا فاسق! فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه. والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز.
والثالث- أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة، الفلاحة بعد التجارة. انتهى.
واختار ابن جرير الثالث، لا ذهابًا لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن، كما أنه غير كافر، فهو في منزلة بين المنزلتين، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن التلقيب بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان، فإن شعار الجاهلية. وعبارته: يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق: {بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا، إن فعلتموه، أن تسموا فساقًا، بئس الاسم الفسوق. وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله: {بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ} عليه. ثم ضعف القول الثاني وقال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه، أو يقبح ركوبه ما ركب مما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه من قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح، فيختم آخرها بالوعيد عليه، أو القبيح. انتهى.
{وَمَن لَّمْ يَتُبْ} أي: من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [12].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} أي: كونوا على جانب منه. وذلك بأن تظنوا بالناس سوءًا؛ فإن الظان غير محقق. وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه، أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن. قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقالوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. نعم! من أظهر فسقه، وهتك ستره، فقد أباح عرضه للناس. ومنه ما روي: من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له. ولذا قال الزمخشري: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر، كان حرامًا واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد من الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد والخيانة به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث.
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} وهو ظن المؤمن الشر، لا الخير: {إِثْمٌ} أي: مكسب للعقاب، لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه.
قال حجة الإسلام الغزالي في (الإحياء) في بيان تحريم الغيبة بالقلب: اعلم أن سوء الظن حرام، مثل سوء القول. فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدث نفسك، وتسيء الظن بأخيك. قال: ولست أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن. فأما الخواطر وحديث النفس، فهو معفو عنه، بل الشك أيضًا معفو عنه. ولكن المنهي عنه أن يظن. والظن عبارة عما تركن إليه النفس، ويميل إليه القلب. فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشفت لك بعيان لا يقبل التأويل. فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته. وما لم تشاهده بعينيك، ولم تسمعه بأذنك، ثم وقع في قلبك، فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذّبه فإن أفسق الفساق. إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة، أو بينة عادلة. انتهى.
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس، ذكر سبحانه النهي عنه، إثر سوء الظن لذلك، فقال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} قال ابن جرير: أي: لا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمونه من سرائره.
يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه، وبحث عنه، كتلمس. قال الشهاب: الجس بالجيم كاللمس، فيه معنى الطلب؛ لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه، فأريد به ما يلزمه، واستعمل التفعل للمبالغة فيه.
قال الغزالي: ومعنى التجسس أن لا يترك عَبَّاد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع، وهتك الستر، حتى ينكشف له ما هو كان مستورًا عنه، كان أسلم لقلبه ودينه.
وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، منها حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يخلص الإيمان في قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته».
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عَبَّاد الله إخوانا». وروى أبو داود أن ابن مسعود رضي الله عنه أتى برجل، فقيل له: هذا فلان، تقطر لحيته خمرًا! فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به- والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته: الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وروى أبو داود عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم». فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية من رسول الله، نفعه الله بها.
وروى الإمام أحمد عن دجين، كاتب عقبة، قال: لعقبة: إنا لنا جيرانًا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط ليأخذونهم! قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم! قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دجين فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشُّرط فتأخذهم! فقال له عقبة: لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موؤودة من قبرها»!.
وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم». قال الأوزاعي: ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون.
{وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب، ما يكره المقول فيه ذلك، أن يقال له في وجهه. يقال: غابه واغتابه، كغاله واغتاله، إذا ذكره بسوء في غيبته {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}؟ أي: فلو عرض عليكم، نفرت عنه نفوسكم، وكرهتموه. فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة. وفيه استعارة تمثيلية، مثل اغتياب الْإِنْسَاْن لآخر بأكل لحم الأخ ميتًا.
لطائف:
الأولى- قال الزمخشري: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} الخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى: منها- الاستفهام الذي معناه التقرير، وهو يفيد المبالغة من حيث إنه لا يقع في كلام مسلم عند كل سامع، حقيقة أو دعاء. ومنها- جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة. ومنها- إسناد الفعل إلى أحدكم، والإشعار بأن أحدًا من الأحدين لا يحب ذلك.
ومنها- أن لم يقتصر تمثيل الاغتاب بأكل لحم الْإِنْسَاْن، حتى جعل الْإِنْسَاْن أخًا.
ومنها- أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ، حتى جعل ميتًا. انتهى.
وقال ابن الأثير في (المثل السائر) في بحث الكناية: فمن ذلك قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} الخ فإنه كنى عن الغيبة بأكل لحم الْإِنْسَاْن لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتًا، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة. فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله.
فأما جعل الغيبة كأكل لحم الْإِنْسَاْن لحم إنسان آخر مثله، فشديد المناسبة جدًا، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم. وتمزيق العرض مماثل لأكل الْإِنْسَاْن لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة. وأما جعله كلحم الأخ فلِما في الغيبة من الكراهة، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها، آمران بتركها، والبعد عنها. ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته.
ومن المعلوم أن لحم الْإِنْسَاْن مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه. فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة. وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة، والشهوة لها، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهًا، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها، وجدتها مناسبة لما قصدت له. انتهى.
الثانية- الفاء في قوله تعالى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} فصيحة في جواب شرط مقدّر. والمعنى: إن صح ذلك، أو عرض عليكم هذا، فقد كرهتموه، فما ذكر جواب للشرط، وهو ماض فيقدر معه قد ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقولونَ} [الفرقان: 19]، وضمير: {فَكَرِهْتُمُوهُ} للأكل، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه. والمعنى: فاكرهوه كراهيتهم لذلك الأكل. وعبر عنه بالماضي للمبالغة، فإذا أول بما ذكر يكون إنشائيًا غير محتاج لتقدير قد- أفاده الشهاب-.
الثالثة- قال ابن الفَرَس: يستدل بالآية على أن لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان. فدل على أنه في التحريم فوقها. ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه (بالإحياء) للغزالي، فإنه جمع فأوعى.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء، والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} أي: يقبل توبة التائبين إليه، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم.
ثم نبه تعالى، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض، على تساويهم في البشرية، كما قال ابن كثير، بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [13].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} أي: من آدم وحواء، أو من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء. أي: من أب وأم، فما منكم أحد إلا هو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر، والتفاضل في النسب.
{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} قال ابن جرير: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضًا نسبًا بعيدًا، وبعضكم يناسب بعضًا نسبًا قريبًا. ليعرف بعضكم بعضًا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقربة تقربكم إلى الله، بل كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي: أشدكم اتقاء له، وخشية بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتًا، ولا أكثركم عشيرة.
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي: بظواهركم وبواطنكم، وبالأتقى والأكرم، وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية.
تنبيهات:
الأول- حكى الثعالبي في (فقه اللغة) في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبي عن أبيه: أن الشَّعب بفتح الشين، أكبر من القبيلة، ثم القبيلة، ثم العِمارة، بكسر العين، ثم البطن، ثم الفخذ. وعن غيره: الشَّعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيْرة، ثم الذرية، ثم العترة، ثم الأسرة. انتهى. وقال الشيخ ابن بري: الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو: الشَّعب، ثم القبيلة، ثم العِمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قال أبو أسامة: هذه الطبقات على ترتيب خلق الْإِنْسَاْن، فالشعب أعظمها، مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها، ثم العمارة وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة وهي الساق. وزاد بعضهم العشيرة فقال:
أَقْصِدُ الشَّعْبَ فَهُوَ أَكْثَرُ حَيٍّ ** عَدَدًا فِيْ الحِوَاْءِ ثُمَّ الْقَبِيْلَهْ

ثُمَّ يَتْلُوْهَا الْعِمَاْرَةُ ثُمَّ الْـ ** بَطْنُ وَالْفَخْذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيْلَهْ

ثُمَّ مِنْ بَعْدِهَا الْعَشِيْرَةُ لَكِنْ ** هِيَ فِيْ جَنْبِ مَاْ ذَكَرْنَاْ قَلِيْلَهْ

فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عِمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت الشعوب؛ لأن القبائل تشعبت منها. والشعوب: جمع شعب، بفتح الشين.
قال أبو عبيد البكري في (شرح نوادر أبي علي القالي): كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح، وفي الجبل بالكسر، إلا بندار فإنه رواه عن أبي عبيدة بالعكس. نقله الزبيدي في (تاج العروس).
الثاني- في الآية الاعتناء بالأنساب، وأنها شرعت للتعارف، وذم التفاخر بها، وأن التقي غير النسيب، يقدم على النسيب غير التقي، فيقدم الأروع في الإمامة على النسيب وهو على غيرهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: سألت مالكًا عن نكاح الموالي العربية فقال: حلال، ثم تلا هذه الآية، فلم يشترط في الكفاءة الحرية- نقله في (الإكليل).
وقال ابن كثير: استدل بالآية، من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين.
الثالث- أفاد قوله تعالى: {لَتِتَعَاَرَفُواْ} حصر حكمة جعلهم شعوبًا وقبائل فيه. أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضًا، فتصلوا الأرحام، وتبينوا الأنساب، والتوارث، لا للتفاخر بالآباء والقبائل.
قال الشهاب: الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر، والسكوت في معرض البيان. وقال القاشاني: معنى قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لا كرامة بالنسب، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى. والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب، لا للتفاخر، فإنه من الرذائل. والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى. ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة، كان صاحبها أكرم عند الله، وأجل قدرًا. فالمتقي عن المناهي الشرعية، التي هي الذنوب، في عرف ظاهر الشرع، أكرم من الفاجر، وعن الرذائل الخلقية كالجهل، والبخل، والشره، والحرص، والجبن، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها. انتهى.